التوصية بهذا على Google
أمسكت د. تريسي غريكشايت بقطعة من الأمعاء في يديها اللتين ترتدي فيهما قفازا طبيا، وقامت بفحصها بوصة بوصة كما لو كانت تفحص الإطار الداخلي لدراجة هوائية بحثا عن أي تسريب. وكانت هذه الأمعاء ما تزال متصلة من أحد طرفيها بالطفل مارك بارفنيشت، وهو رضيع يبلغ من العمر عاما واحدا كانت وجنتاه المتوردتان تكذبان فكرة أنه يرقد على طاولة عمليات جراحية داخل «مستشفى لوس أنجليس للأطفال».
كان مارك من الأطفال المبتسرين (الخدج) الذين ولدوا قبل موعد الولادة الطبيعي بثلاثة أشهر، مما سبب لديه اضطرابا صحيا يؤثر على ما يصل إلى 10 في المائة من الرضع الذين يبلغ وزنهم نحو 3 أرطال (الرطل يساوي 453 غراما تقريبا) أو أقل عند الولادة، وهذا الاضطراب يؤدي إلى موت بعض النسيج المعوي لديهم. وقد كانت حالة مارك سيئة للغاية إلى درجة أن معظم أمعائه تمت إزالتها بالفعل، والآن تحاول الطبيبة الجراحة غريكشايت أن تحدد كم يمكنها إنقاذ ما تبقى من الأمعاء.
«أمعاء قصيرة»
* تشتهر غريكشايت ببراعتها في علاج الرضع من أمثال مارك، الذين ربما تكون الطريقة الوحيدة لبقائهم على قيد الحياة هي الطريقة التي تسميها «الطفل ذو الأحشاء القصيرة»، أي أن يعيش الطفل بأمعاء قصيرة إلى درجة لا تمكنها من امتصاص الغذاء بصورة طبيعية، مما يجبره على الحصول على العناصر الغذائية عن طريق الحقن في الدم مباشرة.
ولكن كما تعمل غريكشايت بإخلاص من أجل إنقاذ الأطفال داخل غرفة العمليات، فهي مصممة بالقدر نفسه على البحث عن حل أفضل مما يواجهه المرضى من التغذية عن طريق الحقن في الأوردة، التي قد تستمر معهم طوال العمر. وهي تقضي معظم وقتها داخل مختبرها على الجانب المقابل من الشارع، في «معهد سابان للأبحاث» التابع للمستشفى، حيث تعمل مع فريقها البحثي للعثور على طريقة لتكوين أمعاء بديلة من أجل الأطفال من أمثال مارك، من خلال استخدام الجسم نفسه لتغذية النسيج المركب ودفعه إلى النمو.
ويأتي عمل غريكشايت في صدارة الجهود التي تبذل داخل المختبرات في مختلف أنحاء العالم لبناء أعضاء وأنسجة بديلة، وعلى الرغم من أن الهدف المنشود منذ زمن بتطوير أعضاء مركبة مثل القلب والكبد من أجل تسهيل زراعتها محل الأعضاء التالفة ما زال أمامه طريق طويل، فإن الباحثين بدأوا في تحقيق نجاح في تكوين أعضاء أبسط، مثل المثانة والقصبة الهوائية، بفضل التقدم الذي تحقق في فهم الخلايا الجذعية، وهي الخلايا الأساسية التي يمكن تحويلها إلى أنواع أخرى من الخلايا داخل الجسم، وكذلك بفضل التقنيات المبتكرة التي تم تطويرها.
تطوير نسيج معوي
* وقد ظلت غريكشايت حتى الآن تركز على تنمية النسيج المعوي لدى الحيوانات المختبرية، مثل الجرذان والفئران والخنازير، إلا أنها نجحت مؤخرا في تنمية النسيج المعوي لدى الإنسان باستخدام خلايا من بعض المتبرعين، كما بدأت في دراسة كيفية تطوير هذه التقنية لاستخدامها مع المرضى من البشر، وهي تواجه عقبات كثيرة، وما زال أمامها سنوات حتى يمكنها إجراء اختبارات على البشر، لكنها تمتلك ثقة طبيبة جراحة في أن تلك التقنية سوف تصلح، وهي توضح ذلك قائلة: «لدينا مشكلة كبيرة إذا تمكنا من حلها فسوف تغير مستقبل الكثير من الأطفال».
وداخل مختبر غريكشايت يعمل فريقها على الفئران، حيث قاموا أولا بإزالة الأمعاء السليمة منها وتقطيعها ومعالجتها باستخدام إنزيمات ومركبات أخرى لتكوين مجموعات من الخلايا المختلطة، مثل الخلايا الجذعية التي توجد في البطانة الممتصة للعناصر الغذائية داخل الأمعاء وغيرها من الخلايا التي تشكل النسيج الضام الأكثر متانة، وبعد ذلك يتم وضع هذه المجموعات على قطعة من البلاستيك المسامي القابل للتحلل عضويا، بنفس حجم وشكل ممحاة القلم الرصاص تقريبا، وهذه القطعة البلاستيكية تقوم بدور السقالة، حيث تدعم الخلايا وتوجهها، مما يساعد على نمو البطانة إلى الداخل بينما ينمو النسيج الضام من الخارج.
وهذا النوع من زرع السقالات التي تحمل الخلايا منهج شائع في مجال الطب التجديدي، وهو يعرف أيضا باسم «هندسة الأنسجة» (tissue engineering). ولكن في معظم الحالات يكون الهدف هو مبادلة العضو المعطوب، كالقصبة الهوائية مثلا، بالبديل المصنع، حيث يستطيع النمو داخل مكانه الدائم في الجسم.
وقد حققت غريكشايت نجاحا داخل المختبر بطريقة مختلفة، حيث استخدمت جزءا آخر من الجسم لتغذية العضو البديل أثناء نموه، فالبلاستيك يتحلل في النهاية مع نمو حزمة الخلايا وتحولها إلى كرة مجوفة من النسيج، وبعد بضعة أسابيع تقوم غريكشايت والباحثون الذين يعملون معها بإزالة هذه الكرة من الثرب omentum (وهو الغشاء الشحمي للأمعاء) لدراسته، كي يفهموا بصورة أفضل كيف يحدث النمو التجديدي. وهذا النسيج يضم جميع مكونات الأمعاء، من البطانة والعضلات والأعصاب والأوعية الدموية.
وفي دراساتها السابقة التي أجرتها على الجرذان، ذهبت غريكشايت إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث قامت بتثبيت النسيج في القناة الهضمية لدى الجرذان التي كانت قد تمت إزالة معظم أمعائها، فتعافت الجرذان التي زرعت بها الأمعاء المصنعة بصورة أسرع من الجرذان التي لم توضع بها تلك الأمعاء. ومن خلال الجمع بين هذا النوع من التدخل المختبري ونشاطها الجراحي، فإن غريكشايت تفعل ما كانت دوما ترى أنه ما ينبغي أن يفعله الجراحون، وهي تقول: «إنك تتقدم بالطب إلى الأمام».
وتقول غريكشايت (40 عاما) التي تمتلئ بالحيوية والنشاط ومن السهل التعرف عليها داخل المستشفى بغطاء الرأس الطبي الذي ترتديه والمطبوع عليه صورة ثمار الفراولة، إنها كانت تعلم دائما أنها سوف تصبح طبيبة جراحة، حيث قالت ذلك لجدتها الكبرى وهي ما تزال في السادسة من عمرها حين كانت تعيش خارج مدينة سولت ليك سيتي. وأثناء فترة التدريب انجذبت نحو جراحة الأطفال، فالأطفال مقارنة بالكبار هم بمثابة أعمال ما تزال في مراحل التكوين، وأحيانا ما تكون أعمالا ناقصة، وهي تقول: «الشيء المثير للاهتمام حقا هو كيفية تكوين شيء خرج بصورة خاطئة وتصويبه قدر الإمكان».
نمو الأمعاء
* وهي تتخيل اليوم الذي سيخرج فيه منهجها من المختبر إلى غرفة العمليات، فالعمليات المستقبلية لإزالة الأمعاء الميتة من الأطفال المبتسرين، أو من المرضى الآخرين الذين أصابهم تلف معوي حاد، قد تتضمن خطوة إضافية وهي وضع قطعة صغيرة من الأمعاء السليمة على طاولة مجاورة، وقيام الفنيين سريعا بتحضير مجموعة خلايا لزرعها فورا في ثرب المريض. وربما يتعين على المريض الاعتماد على حقن العناصر الغذائية لمدة شهر أو نحوه حتى تنمو الأمعاء، ولكنه في النهاية سيتوقف عنها بعد أن يكتمل نمو النسيج الجديد وتتم خياطته في مكانه.
ولن يلزم استعمال الكثير من الأمعاء الجديدة، إذ تقول غريكشايت: «كل ما تحتاج إليه هو تصنيع عضو إلى الدرجة التي يمكن عندها إصلاح الوظيفة الناقصة»، فحتى بوصتين قد تكفيان، مضيفة: «هذا سيعيد إليها ما يكفي من وظيفة الامتصاص للاستغناء عن حقن العناصر الغذائية والحياة بصورة كاملة». ومثل هذا العلاج ما زال بعيدا جدا عن مارك بارفنيشت.
جراحة طفل مبتسر
* وداخل غرفة العمليات في ذلك اليوم في وقت سابق من هذا العام، واصلت غريكشايت وجراح زميل لها هو د. ديمتري ميريانوس، فحص أمعاء مارك، ومن دون امتلاك القدرة بعد على تجديد النسيج المعوي لدى الطفل، فقد كان تركيزهما منصبا على الحفاظ على أكبر كم ممكن من العضو التالف.
وقالت غريكشايت وهي تتحسس النسيج الذي كانت قد قضت هي وميريانوس أكثر من ساعة في تحريره ونزعه بدقة من تجويف البطن لدى مارك، بينما كان الدخان يتصاعد من شفرة الكي وهما يقطعان الأماكن التي كان يلتصق فيها بالكبد بعد جراحة سابقة: «سوف ينتهي هذا إلى أنبوب ضيق». ولضمان أن يكون في مقدورهما إعادة توصيل القناة الهضمية لدى مارك بطريقة سليمة في نهاية العملية التي استغرقت 4 ساعات، فقد ثبتا في أطراف الأمعاء خيطا وملزمات جراحية من مختلف الأنواع، كما دونا ملاحظات على الستائر الجراحية الورقية عن مكان كل طرف من هذه الأطراف.
واتفقت غريكشايت وميريانوس على أنه ينبغي في الغالب استئصال 3 بوصات من الأمعاء. وبالنسبة لطفل رضيع لن يبقى لديه سوى نحو 15 بوصة من الأمعاء الدقيقة، فإن ذلك لم يكن نبأ جيدا. لكن والدة الطفل كارين بارفنيشت تؤكد أنه نجا، حيث قالت قبل ساعات قليلة من العملية الجراحية، بعد أن أوضح لها والد الطفل مايكل بارفنيشت تفاصيل كل العمليات التي أجريت لابنهما: «بلى، لقد اجتاز الأمر. لديه بكاء يجعلك تشعر بحزن شديد. سوف تفعل أي شيء على الإطلاق من أجله».
اضطراب معوي قولوني
* ولا أحد يعلم على وجه الدقة ما الذي يؤدي إلى الإصابة بهذا الاضطراب، وإن كانت الولادة المبتسرة تلعب دورا، وهذا الاضطراب الذي يطلق عليه اسم «الالتهاب المعوي القولوني الناخر» (necrotizing enterocolitis) يمكن أن يظهر فجأة خلال الأسابيع التي تعقب الولادة. وفي ربع الحالات تقريبا يؤدي موت النسيج المعوي في النهاية إلى الوفاة، وبالنسبة للكثير من الحالات المتبقية، فإن إجراء جراحة عاجلة لاستئصال النسيج أو إزالته يخلق مشكلات جديدة. وتوضح غريكشايت: «عندما أنظر إلى أمعائهم، أكون مدركة بالفعل أن إنقاذ حياتهم يتطلب مني استئصال أكثر مما يمكنهم تحمله».
وإذا كان مقدار النسيج الميت يتجاوز 75 في المائة من الإجمالي، فإن الطفل سوف يضطر عموما وفي الأغلب إلى الحصول على العناصر الغذائية عن طريق الحقن، مما قد يؤدي على المدى البعيد إلى إتلاف الكبد، وربما يلزم إجراء عمليات جراحية أخرى، قد تصل إلى حد زراعة الأمعاء، مما يجلب مخاطر أخرى. وقد كانت حالة مارك تقترب من نسبة 75 في المائة، لذا فقد سبق للأطباء في مستشفى آخر أكثر قربا من منزله في مدينة إنديو بولاية كاليفورنيا أن وضعوه قبل أشهر على نظام التغذية الخاصة عن طريق الحقن، الذي يطلق عليه اسم «التغذية الكاملة بالحقن» (total parenteral nutrition — TPN)، والآن قد بدأت كبده تعاني.
وقد كان مارك يحتاج إلى مستوى عال من الرعاية إلى درجة أن والده استقال من عمله في وظيفة ميكانيكي، ومع ذلك ظل الطفل إما في أحد المستشفيات أو في وحدة نقاهة طوال حياته القصيرة تقريبا، ولم تقض شقيقته الكبرى أي وقت معه. وتقول والدته: «نريده أن يكون معنا في المنزل. فقط نريده معنا في المنزل». وهذا هو هدف غريكشايت أيضا، ولكن قبل أن تتمكن هي وميريانوس من تحديد ما إذا كان يوجد لدى مارك من الأمعاء السليمة ما يكفي للاستغناء في النهاية عن التغذية عن طريق الحقن، فقد كان عليهما تقييم القطاع الضيق المصاب الذي وجداه سابقا، وقد فحصاه مرة أخرى لتقدير الخيارات المتاحة، وقاما مرة بعد مرة بفحص ملاحظاتهما التي كتباها على الستائر، ثم قالت غريكشايت وهي تشير إلى ميريانوس بالبدء في القطع: «للأسف، انطلق».
خياطة الأمعاء
* لكن ذلك كان آخر نبأ سيئ بالنسبة لمارك، فمع استمرار الطبيبين في فحص الأمعاء المتبقية، ازداد تفاؤلهما شيئا فشيئا بأن يكون لديه ما يكفي، وإذا كان الأمر كذلك فسوف يقومان بخياطة القطع المتبقية معا وإعادة توصيل كل شيء من المعدة إلى القولون، وسوف يتعين على مارك الاستمرار في الحصول على التغذية عن طريق الحقن لبعض الوقت، ولكن لا بد أن يكون قادرا في النهاية على الأكل بصورة طبيعية. وتقول غريكشايت: «أعتقد أننا سنستغني عن التغذية الكاملة بالحقن وندعه يذهب إلى منزله».
لكن الأطفال الذين لا يكونون محظوظين إلى هذا الحد، حيث إن الجراحة لا يمكنها أن تفعل الكثير بالنسبة لهم، هم الذين يحفزون غريكشايت على مواصلة العمل من أجل العثور على طريقة لتكوين نسيج جديد. وتختتم قائلة: «إنك تجد باستمرار هؤلاء الأطفال الذين يموتون في كثير من الحالات. أعتقد أنه سيكون من المحبط للغاية أن تظل تضرب رأسك في نفس المشكلة وتقول: (حسنا، هذا سيئ جدا)».
المصدر
كان مارك من الأطفال المبتسرين (الخدج) الذين ولدوا قبل موعد الولادة الطبيعي بثلاثة أشهر، مما سبب لديه اضطرابا صحيا يؤثر على ما يصل إلى 10 في المائة من الرضع الذين يبلغ وزنهم نحو 3 أرطال (الرطل يساوي 453 غراما تقريبا) أو أقل عند الولادة، وهذا الاضطراب يؤدي إلى موت بعض النسيج المعوي لديهم. وقد كانت حالة مارك سيئة للغاية إلى درجة أن معظم أمعائه تمت إزالتها بالفعل، والآن تحاول الطبيبة الجراحة غريكشايت أن تحدد كم يمكنها إنقاذ ما تبقى من الأمعاء.
«أمعاء قصيرة»
* تشتهر غريكشايت ببراعتها في علاج الرضع من أمثال مارك، الذين ربما تكون الطريقة الوحيدة لبقائهم على قيد الحياة هي الطريقة التي تسميها «الطفل ذو الأحشاء القصيرة»، أي أن يعيش الطفل بأمعاء قصيرة إلى درجة لا تمكنها من امتصاص الغذاء بصورة طبيعية، مما يجبره على الحصول على العناصر الغذائية عن طريق الحقن في الدم مباشرة.
ولكن كما تعمل غريكشايت بإخلاص من أجل إنقاذ الأطفال داخل غرفة العمليات، فهي مصممة بالقدر نفسه على البحث عن حل أفضل مما يواجهه المرضى من التغذية عن طريق الحقن في الأوردة، التي قد تستمر معهم طوال العمر. وهي تقضي معظم وقتها داخل مختبرها على الجانب المقابل من الشارع، في «معهد سابان للأبحاث» التابع للمستشفى، حيث تعمل مع فريقها البحثي للعثور على طريقة لتكوين أمعاء بديلة من أجل الأطفال من أمثال مارك، من خلال استخدام الجسم نفسه لتغذية النسيج المركب ودفعه إلى النمو.
ويأتي عمل غريكشايت في صدارة الجهود التي تبذل داخل المختبرات في مختلف أنحاء العالم لبناء أعضاء وأنسجة بديلة، وعلى الرغم من أن الهدف المنشود منذ زمن بتطوير أعضاء مركبة مثل القلب والكبد من أجل تسهيل زراعتها محل الأعضاء التالفة ما زال أمامه طريق طويل، فإن الباحثين بدأوا في تحقيق نجاح في تكوين أعضاء أبسط، مثل المثانة والقصبة الهوائية، بفضل التقدم الذي تحقق في فهم الخلايا الجذعية، وهي الخلايا الأساسية التي يمكن تحويلها إلى أنواع أخرى من الخلايا داخل الجسم، وكذلك بفضل التقنيات المبتكرة التي تم تطويرها.
تطوير نسيج معوي
* وقد ظلت غريكشايت حتى الآن تركز على تنمية النسيج المعوي لدى الحيوانات المختبرية، مثل الجرذان والفئران والخنازير، إلا أنها نجحت مؤخرا في تنمية النسيج المعوي لدى الإنسان باستخدام خلايا من بعض المتبرعين، كما بدأت في دراسة كيفية تطوير هذه التقنية لاستخدامها مع المرضى من البشر، وهي تواجه عقبات كثيرة، وما زال أمامها سنوات حتى يمكنها إجراء اختبارات على البشر، لكنها تمتلك ثقة طبيبة جراحة في أن تلك التقنية سوف تصلح، وهي توضح ذلك قائلة: «لدينا مشكلة كبيرة إذا تمكنا من حلها فسوف تغير مستقبل الكثير من الأطفال».
وداخل مختبر غريكشايت يعمل فريقها على الفئران، حيث قاموا أولا بإزالة الأمعاء السليمة منها وتقطيعها ومعالجتها باستخدام إنزيمات ومركبات أخرى لتكوين مجموعات من الخلايا المختلطة، مثل الخلايا الجذعية التي توجد في البطانة الممتصة للعناصر الغذائية داخل الأمعاء وغيرها من الخلايا التي تشكل النسيج الضام الأكثر متانة، وبعد ذلك يتم وضع هذه المجموعات على قطعة من البلاستيك المسامي القابل للتحلل عضويا، بنفس حجم وشكل ممحاة القلم الرصاص تقريبا، وهذه القطعة البلاستيكية تقوم بدور السقالة، حيث تدعم الخلايا وتوجهها، مما يساعد على نمو البطانة إلى الداخل بينما ينمو النسيج الضام من الخارج.
وهذا النوع من زرع السقالات التي تحمل الخلايا منهج شائع في مجال الطب التجديدي، وهو يعرف أيضا باسم «هندسة الأنسجة» (tissue engineering). ولكن في معظم الحالات يكون الهدف هو مبادلة العضو المعطوب، كالقصبة الهوائية مثلا، بالبديل المصنع، حيث يستطيع النمو داخل مكانه الدائم في الجسم.
وقد حققت غريكشايت نجاحا داخل المختبر بطريقة مختلفة، حيث استخدمت جزءا آخر من الجسم لتغذية العضو البديل أثناء نموه، فالبلاستيك يتحلل في النهاية مع نمو حزمة الخلايا وتحولها إلى كرة مجوفة من النسيج، وبعد بضعة أسابيع تقوم غريكشايت والباحثون الذين يعملون معها بإزالة هذه الكرة من الثرب omentum (وهو الغشاء الشحمي للأمعاء) لدراسته، كي يفهموا بصورة أفضل كيف يحدث النمو التجديدي. وهذا النسيج يضم جميع مكونات الأمعاء، من البطانة والعضلات والأعصاب والأوعية الدموية.
وفي دراساتها السابقة التي أجرتها على الجرذان، ذهبت غريكشايت إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث قامت بتثبيت النسيج في القناة الهضمية لدى الجرذان التي كانت قد تمت إزالة معظم أمعائها، فتعافت الجرذان التي زرعت بها الأمعاء المصنعة بصورة أسرع من الجرذان التي لم توضع بها تلك الأمعاء. ومن خلال الجمع بين هذا النوع من التدخل المختبري ونشاطها الجراحي، فإن غريكشايت تفعل ما كانت دوما ترى أنه ما ينبغي أن يفعله الجراحون، وهي تقول: «إنك تتقدم بالطب إلى الأمام».
وتقول غريكشايت (40 عاما) التي تمتلئ بالحيوية والنشاط ومن السهل التعرف عليها داخل المستشفى بغطاء الرأس الطبي الذي ترتديه والمطبوع عليه صورة ثمار الفراولة، إنها كانت تعلم دائما أنها سوف تصبح طبيبة جراحة، حيث قالت ذلك لجدتها الكبرى وهي ما تزال في السادسة من عمرها حين كانت تعيش خارج مدينة سولت ليك سيتي. وأثناء فترة التدريب انجذبت نحو جراحة الأطفال، فالأطفال مقارنة بالكبار هم بمثابة أعمال ما تزال في مراحل التكوين، وأحيانا ما تكون أعمالا ناقصة، وهي تقول: «الشيء المثير للاهتمام حقا هو كيفية تكوين شيء خرج بصورة خاطئة وتصويبه قدر الإمكان».
نمو الأمعاء
* وهي تتخيل اليوم الذي سيخرج فيه منهجها من المختبر إلى غرفة العمليات، فالعمليات المستقبلية لإزالة الأمعاء الميتة من الأطفال المبتسرين، أو من المرضى الآخرين الذين أصابهم تلف معوي حاد، قد تتضمن خطوة إضافية وهي وضع قطعة صغيرة من الأمعاء السليمة على طاولة مجاورة، وقيام الفنيين سريعا بتحضير مجموعة خلايا لزرعها فورا في ثرب المريض. وربما يتعين على المريض الاعتماد على حقن العناصر الغذائية لمدة شهر أو نحوه حتى تنمو الأمعاء، ولكنه في النهاية سيتوقف عنها بعد أن يكتمل نمو النسيج الجديد وتتم خياطته في مكانه.
ولن يلزم استعمال الكثير من الأمعاء الجديدة، إذ تقول غريكشايت: «كل ما تحتاج إليه هو تصنيع عضو إلى الدرجة التي يمكن عندها إصلاح الوظيفة الناقصة»، فحتى بوصتين قد تكفيان، مضيفة: «هذا سيعيد إليها ما يكفي من وظيفة الامتصاص للاستغناء عن حقن العناصر الغذائية والحياة بصورة كاملة». ومثل هذا العلاج ما زال بعيدا جدا عن مارك بارفنيشت.
جراحة طفل مبتسر
* وداخل غرفة العمليات في ذلك اليوم في وقت سابق من هذا العام، واصلت غريكشايت وجراح زميل لها هو د. ديمتري ميريانوس، فحص أمعاء مارك، ومن دون امتلاك القدرة بعد على تجديد النسيج المعوي لدى الطفل، فقد كان تركيزهما منصبا على الحفاظ على أكبر كم ممكن من العضو التالف.
وقالت غريكشايت وهي تتحسس النسيج الذي كانت قد قضت هي وميريانوس أكثر من ساعة في تحريره ونزعه بدقة من تجويف البطن لدى مارك، بينما كان الدخان يتصاعد من شفرة الكي وهما يقطعان الأماكن التي كان يلتصق فيها بالكبد بعد جراحة سابقة: «سوف ينتهي هذا إلى أنبوب ضيق». ولضمان أن يكون في مقدورهما إعادة توصيل القناة الهضمية لدى مارك بطريقة سليمة في نهاية العملية التي استغرقت 4 ساعات، فقد ثبتا في أطراف الأمعاء خيطا وملزمات جراحية من مختلف الأنواع، كما دونا ملاحظات على الستائر الجراحية الورقية عن مكان كل طرف من هذه الأطراف.
واتفقت غريكشايت وميريانوس على أنه ينبغي في الغالب استئصال 3 بوصات من الأمعاء. وبالنسبة لطفل رضيع لن يبقى لديه سوى نحو 15 بوصة من الأمعاء الدقيقة، فإن ذلك لم يكن نبأ جيدا. لكن والدة الطفل كارين بارفنيشت تؤكد أنه نجا، حيث قالت قبل ساعات قليلة من العملية الجراحية، بعد أن أوضح لها والد الطفل مايكل بارفنيشت تفاصيل كل العمليات التي أجريت لابنهما: «بلى، لقد اجتاز الأمر. لديه بكاء يجعلك تشعر بحزن شديد. سوف تفعل أي شيء على الإطلاق من أجله».
اضطراب معوي قولوني
* ولا أحد يعلم على وجه الدقة ما الذي يؤدي إلى الإصابة بهذا الاضطراب، وإن كانت الولادة المبتسرة تلعب دورا، وهذا الاضطراب الذي يطلق عليه اسم «الالتهاب المعوي القولوني الناخر» (necrotizing enterocolitis) يمكن أن يظهر فجأة خلال الأسابيع التي تعقب الولادة. وفي ربع الحالات تقريبا يؤدي موت النسيج المعوي في النهاية إلى الوفاة، وبالنسبة للكثير من الحالات المتبقية، فإن إجراء جراحة عاجلة لاستئصال النسيج أو إزالته يخلق مشكلات جديدة. وتوضح غريكشايت: «عندما أنظر إلى أمعائهم، أكون مدركة بالفعل أن إنقاذ حياتهم يتطلب مني استئصال أكثر مما يمكنهم تحمله».
وإذا كان مقدار النسيج الميت يتجاوز 75 في المائة من الإجمالي، فإن الطفل سوف يضطر عموما وفي الأغلب إلى الحصول على العناصر الغذائية عن طريق الحقن، مما قد يؤدي على المدى البعيد إلى إتلاف الكبد، وربما يلزم إجراء عمليات جراحية أخرى، قد تصل إلى حد زراعة الأمعاء، مما يجلب مخاطر أخرى. وقد كانت حالة مارك تقترب من نسبة 75 في المائة، لذا فقد سبق للأطباء في مستشفى آخر أكثر قربا من منزله في مدينة إنديو بولاية كاليفورنيا أن وضعوه قبل أشهر على نظام التغذية الخاصة عن طريق الحقن، الذي يطلق عليه اسم «التغذية الكاملة بالحقن» (total parenteral nutrition — TPN)، والآن قد بدأت كبده تعاني.
وقد كان مارك يحتاج إلى مستوى عال من الرعاية إلى درجة أن والده استقال من عمله في وظيفة ميكانيكي، ومع ذلك ظل الطفل إما في أحد المستشفيات أو في وحدة نقاهة طوال حياته القصيرة تقريبا، ولم تقض شقيقته الكبرى أي وقت معه. وتقول والدته: «نريده أن يكون معنا في المنزل. فقط نريده معنا في المنزل». وهذا هو هدف غريكشايت أيضا، ولكن قبل أن تتمكن هي وميريانوس من تحديد ما إذا كان يوجد لدى مارك من الأمعاء السليمة ما يكفي للاستغناء في النهاية عن التغذية عن طريق الحقن، فقد كان عليهما تقييم القطاع الضيق المصاب الذي وجداه سابقا، وقد فحصاه مرة أخرى لتقدير الخيارات المتاحة، وقاما مرة بعد مرة بفحص ملاحظاتهما التي كتباها على الستائر، ثم قالت غريكشايت وهي تشير إلى ميريانوس بالبدء في القطع: «للأسف، انطلق».
خياطة الأمعاء
* لكن ذلك كان آخر نبأ سيئ بالنسبة لمارك، فمع استمرار الطبيبين في فحص الأمعاء المتبقية، ازداد تفاؤلهما شيئا فشيئا بأن يكون لديه ما يكفي، وإذا كان الأمر كذلك فسوف يقومان بخياطة القطع المتبقية معا وإعادة توصيل كل شيء من المعدة إلى القولون، وسوف يتعين على مارك الاستمرار في الحصول على التغذية عن طريق الحقن لبعض الوقت، ولكن لا بد أن يكون قادرا في النهاية على الأكل بصورة طبيعية. وتقول غريكشايت: «أعتقد أننا سنستغني عن التغذية الكاملة بالحقن وندعه يذهب إلى منزله».
لكن الأطفال الذين لا يكونون محظوظين إلى هذا الحد، حيث إن الجراحة لا يمكنها أن تفعل الكثير بالنسبة لهم، هم الذين يحفزون غريكشايت على مواصلة العمل من أجل العثور على طريقة لتكوين نسيج جديد. وتختتم قائلة: «إنك تجد باستمرار هؤلاء الأطفال الذين يموتون في كثير من الحالات. أعتقد أنه سيكون من المحبط للغاية أن تظل تضرب رأسك في نفس المشكلة وتقول: (حسنا، هذا سيئ جدا)».
المصدر
0 التعليقات:
إرسال تعليق